القطب الشمالي- تهديد نووي كامن وصراع محتمل على النفوذ العالمي.

المؤلف: ماثيو والين09.06.2025
القطب الشمالي- تهديد نووي كامن وصراع محتمل على النفوذ العالمي.

منذ أمد بعيد، انقضت أيام التدريبات التي عرفت بـ"الاحتماء والانبطاح" والملاجئ النووية التي انتشرت في أرجاء الولايات المتحدة الأميركية، وهي فترة عصفت بها هواجس الحرب النووية التي استبدت بعقول الكثيرين. لعقود مضت، سادت أصوات التعقل والحكمة، وعملت كل من الولايات المتحدة وروسيا بتضافر جهودهما على تقليص احتمالية نشوب صراع نووي كارثي، والحد من حجم ترساناتهما النووية الضخمة.

إلا أن هذا التعاون المثمر بدأ بالتصدع والانحلال بحلول عام 2022، وذلك إثر الغزو الروسي المتعثر لأوكرانيا، الذي أثار مخاوف حقيقية وجدية من تصعيد نووي مدمر، وقوض بشكل كبير فرص التوصل إلى اتفاقيات مستقبلية تهدف إلى الحد من الأسلحة النووية وتنظيمها.

ومع التجاهل الذي أبدته روسيا تجاه المساعي التصالحية التي أطلقتها إدارة ترامب لإنهاء الصراع، بدأت الآمال في إخماد نار الحرب تتلاشى تدريجيًا، بينما تشعر أوروبا بوطأة الضغوط المتزايدة، مما دفعها إلى إطلاق مبادرات وجهود جبارة لتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية وحماية أمنها القومي.

في خضم هذه التوترات المتصاعدة، أخذ ذوبان الجليد القطبي المتسارع يفتح طرقًا بحرية جديدة في منطقة القطب الشمالي، مما يفسح المجال أمام حركة الشحن المتزايدة، واستكشاف الموارد الطبيعية الهائلة، وتنفيذ الاستعراضات العسكرية التي تهدف إلى إبراز القوة والنفوذ.

تعتبر فنلندا والسويد، وهما أحدث المنضمين إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، من الدول القطبية البارزة. أما روسيا، فهي اليوم اللاعب الأقوى والمهيمن في المنطقة القطبية، حيث تستحوذ على 53% من إجمالي سواحل القطب الشمالي، وتمتلك أضخم أسطول من كاسحات الجليد على مستوى العالم، بالإضافة إلى تعزيز قواعدها العسكرية المنتشرة في تلك المنطقة الإستراتيجية.

وبالتوازي مع ذلك، بدأت الصين تلعب دورًا متزايد الأهمية في المنطقة القطبية، وذلك من خلال إجراء مناورات عسكرية قطبية مشتركة مع روسيا، وتسيير أسطولها الخاص من كاسحات الجليد، على الرغم من أنها لا تمتلك أي أراضٍ تقع داخل الدائرة القطبية الشمالية.

ولكن، هل من المقدر لمنطقة القطب الشمالي أن تكون الشرارة التي تشعل فتيل حرب نووية مدمرة؟ دعونا نتفحص الاحتمالات الماثلة أمامنا بعين فاحصة.

على الرغم من برودته القارسة وأجوائه المتجمدة، لم يكن القطب الشمالي بمنأى عن الصراعات والنزاعات العسكرية على مر التاريخ، إذ يحتل موقعًا إستراتيجيًا حيويًا، ويعتبر بمثابة معبر بالغ الأهمية نحو المحيطين الأطلسي والهادئ.

ففي حقبة الحرب العالمية الثانية، امتدت معركة الأطلسي الشرسة إلى منطقة القطب الشمالي، حيث عبرت السفن المحملة بالإمدادات الأميركية إلى الاتحاد السوفياتي عبر طريق بحر الشمال. كما اجتاحت ألمانيا النازية دولة النرويج، وشن الاتحاد السوفياتي حرب الشتاء ضد فنلندا في عام 1940. ومع تصاعد وتيرة الحرب الباردة، تحول القطب الشمالي إلى مسرح رئيسي للأنشطة الغواصية السرية.

في أيامنا المعاصرة، يبرز إصرار الرئيس ترامب على "الاستحواذ على غرينلاند بطريقة أو بأخرى" الأهمية المتنامية للقطب الشمالي بالنسبة لمصالح الأمن القومي الأميركي.

فموقع غرينلاند الجغرافي المتميز، بالإضافة إلى تشغيل الولايات المتحدة لقاعدة بيتوفيك الفضائية (Pituffik Space Base) الواقعة في أقصى الشمال، يوفران قدرات أساسية في مجالات "الإنذار الصاروخي المبكر، والدفاع الصاروخي الفعال، والمراقبة الفضائية الدقيقة".

إذ يمر أقصر مسارات الطيران الصاروخي النووي بين الولايات المتحدة وروسيا فوق منطقة المحيط المتجمد الشمالي، وفقدان هذه القاعدة الحيوية – نتيجة لخطأ دبلوماسي فادح – قد يتسبب في إحداث فجوة خطيرة في نظام الدفاع الإستراتيجي الأميركي.

ومع ذلك، فإن فقدان القاعدة نتيجة لهجوم روسي مباشر يهدف إلى تعطيل البنية التحتية للإنذار الصاروخي الأميركية، يبقى أمرًا مستبعدًا إلى حد كبير، وذلك بالنظر إلى خطر الرد الفوري والتصعيد الكارثي الذي قد يترتب عليه.

في الوقت الراهن، يتمثل المسار الأرجح لنشوب تبادل نووي محتمل في منطقة القطب الشمالي في اعتداء روسي تقليدي، أو نشاط في "المنطقة الرمادية" ضد دولة عضو في حلف الناتو.

تشمل الأنشطة الرمادية الاشتباكات الحدودية المحدودة، والهجمات السيبرانية الخبيثة، واختراقات المجال الجوي المتكررة، والاعتراضات العسكرية الطائشة، ودعم الجماعات الانفصالية المتطرفة؛ وهي أفعال تقع على الحافة الفاصلة بين السلم والحرب المفتوحة، ولكنها قد تؤدي إلى صراع يتصاعد تدريجيًا إلى درجة الحرب النووية الشاملة.

ومن الممكن أيضًا أن تقع هجمات رمادية أو عمليات معلوماتية تستهدف إحداث انقسام في صفوف الولايات المتحدة، وغرينلاند، والدانمارك، وهي احتمالات ليست بعيدة المنال.

مع انضمام السويد – وفنلندا بشكل خاص، نظرًا لمشاركتها حدودًا برية طويلة تمتد لمسافة 1.343 كيلومترًا مع روسيا – إلى حلف الناتو، تزايدت فرص استهداف دولة قطبية عضو في الحلف.

لتسليط الضوء على هذا الخطر المحتمل، نفذت القوات الأميركية المتمركزة في ألاسكا تدريبًا حديثًا تم خلاله نقل المئات من الجنود إلى فنلندا للتصدي لغزو روسي افتراضي. ومع ذلك، يبدو أن روسيا ستلجأ في الغالب إلى اختبار حدود الناتو من خلال أنشطة رمادية استفزازية ومزعزعة للاستقرار، بدلًا من شن غزو صريح ومباشر.

لقد أدت الكارثة التي حلت بالغزو الروسي لأوكرانيا إلى إثارة الشكوك لدى موسكو بشأن قدرتها على تحقيق أهدافها في مواجهة مباشرة مع دولة نووية، ناهيك عن مهاجمة حليف رئيسي في الناتو، مما يجعل الهجوم المباشر خيارًا غير مرجح على الإطلاق.

ومع ذلك، تبقى مسألة تحديد الخط الأحمر للأنشطة الرمادية بالنسبة لفنلندا، وما الذي قد يؤدي إلى تفعيل المادة الخامسة من معاهدة الدفاع الجماعي، أمرًا يكتنفه الغموض.

لطالما شكلت التهديدات النووية الأميركية رادعًا قويًا لأي هجوم روسي محتمل على دول الناتو الأوروبية، إلا أن التصريحات المتكررة للرئيس ترامب التي تشكك في التزامه بالدفاع عن أي عضو في الناتو يتعرض لهجوم، قد زعزعت ثقة الأوروبيين في التزام أميركا الثابت.

ونتيجة لذلك، تفكر كل من فرنسا والمملكة المتحدة في توسيع ترساناتهما النووية، مما يشير إلى زيادة الاعتماد على الردع النووي كاستراتيجية أساسية، لا سيما للدفاع عن أعضاء الناتو القطبيين. إذ تعيد فرنسا النظر حاليًا في قرارها المتعلق بإيقاف تشغيل رؤوسها النووية الحالية مع دخول بدائل جديدة أكثر تطورًا إلى الخدمة، وهو ما قد يؤدي إلى مضاعفة حجم ترسانتها النووية.

في الوقت ذاته، تقوم فرنسا بترقية قاعدة جوية تقع بالقرب من الحدود الألمانية، لتكون قادرة على استضافة أسلحة نووية متطورة. أما المملكة المتحدة، التي لطالما اعتمدت على الولايات المتحدة في دعم ترسانتها النووية، فقد بدأت تشكك في هذا الاعتماد المطلق، وقد تسعى إلى البحث عن خيارات أخرى بديلة؛ لضمان امتلاكها قدرة ردع فعالة وموثوقة. ومن شأن هذه التطورات المقلقة أن تنذر ببدء سباق تسلح نووي جديد ومثير للقلق.

تلوح في الأفق بوادر فترة من الانتشار النووي المقلق مع حلول شهر فبراير/شباط من عام 2026، وهو الموعد المقرر لانتهاء معاهدة "ستارت الجديدة"، وهي آخر معاهدة قائمة للحد من الأسلحة النووية الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا.

في غضون ذلك، تواصل الصين، التي تنشط بشكل ملحوظ في منطقة القطب الشمالي، بناء ترسانتها النووية بسرعة فائقة، مع طموح واضح لامتلاك أكثر من ألف رأس نووي بحلول عام 2035. وترفض الصين باستمرار الانضمام إلى معاهدة تخفيض الأسلحة النووية متعددة الأطراف مع الولايات المتحدة وروسيا، متذرعة بأن ترسانتها النووية أصغر بكثير مقارنة بترسانتيهما الضخمتين.

قد تؤدي قضايا الملاحة المعقدة في منطقة القطب الشمالي كذلك إلى تصعيدات عسكرية قد تبلغ مستوى الاستخدام النووي. فنظام الملاحة العالمي بالأقمار الصناعية (GNSS)، بما في ذلك نظام تحديد المواقع الأميركي (GPS) ونظام غلوناس الروسي (GLONASS)، يعاني من تراجع ملحوظ في الدقة والموثوقية في منطقة القطب الشمالي، وذلك لأسباب عديدة، من بينها ميول مدارات الأقمار الصناعية، وتداخل الغلاف الأيوني.

مع تزايد حوادث التشويش الروسي المتعمد على نظم الملاحة في أوروبا، يمكن تصور أن روسيا قد تستخدم أساليب مماثلة في منطقة القطب الشمالي، بما في ذلك التلاعب بالإشارات، بهدف إثارة الفوضى والاضطراب، أو التسبب في أخطاء ملاحية كارثية قد تؤدي إلى وقوع حادث دولي قابل للاستغلال.

قد يؤدي انجراف سفن عسكرية أو مدنية إلى داخل المياه الإقليمية الروسية إلى احتجازها، أو الاستيلاء على حمولتها الثمينة، أو احتجاز أفراد طواقمها لاستخدامهم في "دبلوماسية الرهائن" غير المقبولة. وحل مثل هذه المواجهات بالقوة قد يتدهور بسرعة إلى صراع شامل وواسع النطاق.

ومع ذلك، لا يعيش القطب الشمالي في عزلة تامة، فهناك مناطق أخرى من العالم تتصاعد فيها التوترات النووية بشكل ملحوظ.

إن احتمال غزو الصين لتايوان يمثل السيناريو الأرجح لاندلاع مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وقوة نووية أخرى. وعلى الرغم من أن الرئيس شي جين بينغ لم يعلن عن نيته الصريحة لغزو تايوان، فإنه يسعى جاهدًا لأن تكون قواته المسلحة قادرة على اجتياح تايوان بحلول عام 2027.

بينما أشار الرئيس بايدن إلى عزمه على دعم تايوان بشكل مباشر إذا وقع الغزو، يبدو أن الرئيس ترامب يفضل الالتزام بالموقف الأميركي التقليدي القائم على "الغموض الإستراتيجي" حيال الجزيرة.

إذا قررت الصين تنفيذ الغزو، وردت الولايات المتحدة بالدفاع عن تايوان، فإنه من الصعب تصور لجوء واشنطن إلى استخدام السلاح النووي بشأن قضية لا تهدد الأراضي الأميركية مباشرة أو أحد حلفاء الناتو.

ومع ذلك، قد يؤدي استهداف منشآت عسكرية صينية داخل الأراضي الصينية لتعطيل قوة الغزو إلى إثارة رد نووي كارثي.

ما يدعو للقلق بشكل أكبر هو أن السلوكيات العسكرية الاستفزازية في أي مكان في العالم قد تؤدي إلى دورة خطيرة من التصعيد غير المقصود والتي قد تفضي في النهاية إلى تبادل نووي شامل.

مع انفتاح منطقة القطب الشمالي أمام المزيد من الأنشطة العسكرية والتجارية المتزايدة، يُتوقع أن تزيد وتيرة المواجهات المحتملة بين القوات المسلحة المتنافسة. ومع زيادة هذه المواجهات وتكرارها، ترتفع بشكل ملحوظ احتمالية وقوع حادث مؤسف أو هجوم غير مقصود.

بينما تواصل روسيا تحليق طلعاتها الدورية إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي التابعة لألاسكا، وهي منطقة من المجال الجوي الدولي تراقبها الولايات المتحدة عن كثب لرصد جميع الطائرات، فإن التصرفات العدائية التي يقوم بها الطيارون الروس، تزيد من خطر تحول مواجهة روتينية إلى حادث دولي خطير قد تكون له تداعيات وخيمة.

بيدَ أن مثل هذه الحوادث العدائية تحدث بوتيرة أعلى في مناطق أخرى من العالم، مثل بحر البلطيق وبحر الشمال. على سبيل المثال، في عام 2022، أطلق مقاتل روسي من طراز SU-27صاروخينمن طرازSU-27 على طائرة استطلاع بريطانية من طراز RC-135 فوق البحر الأسود، إلا أنهما لم يصيبا هدفهما بفضل العناية الإلهية.

وبالمثل، تشتهر الصين بعمليات اعتراض غير آمنة ومتكررة للطائرات الأجنبية في بحري الصين: الشرقي والجنوبي.

في نهاية المطاف، فإن احتمالية أن يشهد القطب الشمالي، أو أي منطقة أخرى في العالم، صراعًا مدمرًا يؤدي إلى اندلاع حرب نووية شاملة، تتوقف بشكل كبير على الأطراف المعنية وخياراتها الاستراتيجية، وليس على طبيعة المناطق الجغرافية ذاتها.

فالأطراف الملتزمة بحل النزاعات سلميًا وبناء على الاحترام المتبادل ستجد السبل المناسبة للحفاظ على السلام والأمن الدوليين. أما في عصر تسوده المظاهر الاستعراضية للقوة، والمواجهة العنيفة، والنزعات التوسعية العدوانية، فقد نجد أنفسنا جميعًا نتحرك بخطى متسارعة نحو الهاوية دون رجعة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة